أحيانا يسوق لك القدر نماذج بشريّة في عمر الورد ... تلقّنك رحيق الحياة وبعضا من عطر المواساة حين تكون فاقدا للقدرة والرغبة على الحياة.
ذات صباح استيقظت من فراش عقلي مترهّلة الأفكار ، محدودبة في رغبتي ، وقد تركت على سريري جزء من حلم مزجع قرّرت أن آخذه معي في ملامحي . لا رغبة اليوم للحركة خارج دائرة الصّمت هكذا قرّرت أن أعيش هذا اليوم الحار في فصل بارد ينهش عظم ارتعاشي . كابرت وارتديت ما لامس يديّ في مشجب عتيق من ثياب ما راعيت فيها نسق الألوان ، وناولتني حقيبة الخيبة وغادرني العمل قبل أن أغادر إليه .
طيلة الطّريق وحزني في القمّة يعتليني وأنا في العمق أعتلي بساط حزني . تاركة للفراش ما يدعوني للتفاؤل والمرح ، وحينما دخلت مقرّ عملي أحسست أنّي أدخل زنزانة محشوة بالأصوات المزعجة ، تثقب روحي ولا تعيد نظامها . جلست كما يرقد ميّت على قبره وكما تذبل زهرة في آنية مكتب ، وانهمكت قليلا في بعض الأعمال العالقة منذ البارحة .
اتّجهت نحوي إحدى المنظّفات اللواتي يعملن هناك وقد فهمت من قامتها المنصوبة كخيمة هدمها الريّح وتركها في عراء الحرّ تطارد بحيرة الفرح ، قاطعتني وبدأت تحدّثني عن ابنتها دون مقدّمات ، وأنا لا رغبة لي في تبادل غصص الكلام مع أيّ أحد ولا قدرة كانت لوجهي على دقّ طبل الفضول أو تبادل أيّ ضحكة على سبيل الصدفة . عدا أنّي من غير أن أحسّ أطلقت وحوش حواسي نحو من كانت تختبئ خلف ثوبها .
أدركت من ظلالها المتجلّية أنّها طفلة صغيرة ساقها قدرها الخجول إلى خيبتي ومن واجب الكبار دائما أن يبتسموا ولو بكاء أمام الأطفال خصوصا لو كانوا مميّزين مثل هذه الطفلة . وشيئا فشيئا تركت القلم ووضعت العمل جانبا وبدأ ت أصغي باهتمام لهذه الطفلة ولأمّها فمن الغريب أن تصاب طفلة بعمر الفرح بمرض " النّسيان المزمن " بالرّغم من أنّ ذاكرتها الصّغيرة لا تزال غضّة ، لا بل تضيف والدتها بحسرة أنّ وظائف الذاكرة في عقلها متوقّفة . وددت ساعتها لو أنجو إن بكيت . لو أستطيع الهروب كطفلة من غير ذاكرة . أليس عجيبا أن تقف أمامي طفلة محرومة من الذاكرة والذكريات ؟ فبعضنا إن لم أقل كلّنا ينبذ الذاكرة أحيانا ، لأنها لا تنسى شيئا يخصّنا ولا تطاوعنا في نسيان ما نرغب أو رمي ما لا نطيق عن أكتاف احتمالنا . أما هذه الطفلة فقد وجدتها الوحيدة التي تبحث عن ذاكرتها في حرم الكبار ، التي تكره النّسيان بالفطرة وتتعوّذ منه كلّما نقر حقل زهورها .
أجلستها قربي في حين غادرتنا أمّها كما تغادر الشوكة حلق الحبّ .
بدأت أحدّثها عن أحلامها ، عن حبّها للمدرسة ، وعن معلّمتها التي تحبها بدلا من معلّمها الجديد فقلت لها : هل تعرف معلّمتك أنك تحبينها كلّ هذا الحب ؟ قالت لي لا . فأجبتها : عليك أن تخبريها بذلك في المرة القادمة وتبادرت في ذهني فكرة وكأن المرح والنشاط قد دبّا من جديد في عروقي ، وتجاوز حدود إمرتي ، فتشاطرنا الضحك سويا ومسكنا القلم معا وكأنّ دموعنا توحّدت . لنتحدّى النسيان القابع في عقلها الصغير ، ونهزمه بإراقته والرّسم على تفاصيل جسده كما لم يفعل فنّان قبلنا .
بدت الطفلة غارقة في الفرحة والسعادة كما أغرقني حضورها بذلك حين عجزت كلّ الدنيا وجميع العصافير المحلّقة ، وحتى الفضولية منها التي لا تغادر النوافذ لنقل بعض القصص والحكايات كفتات الخبز وحبّات القمح ، وحين رجعت والدتها أدركت أن شيئا ما تغيّر في ملامح ابنتها المنفية وهروبها الذي يواصل غروبه . كأنّ شيئا خارقا حدث على غير العادة وكأنّي صرتني فيها ، في ذاكرتها المليئة بالضّجر ، في ابتساماتها المقبلة والمدبرة في آن .
سألت والدتها حين أوشكتا على مغادرتي . هل تعيدينني إلى هنا ؟ وغادر صوتهما مكان عملي وأدركت كم أنّ العصافير عظيمة في حروفها ، أرواحها الصغيرة تدقّ باب قلوبنا كثيرا لتغمره بالفرح . واستأنفت عملي كمن يحاول لأوّل مرّة ولا يعرف من أين ينتهي بين أوراقه وكومة أشواقه التي تنسدل كالشّعر النّاعم على الرّأس .
كانت زيارتها البريئة خياليّة جدا ملأتني بلقاء وأفرغتها ببقايا ما أملك وما أشهى أطباق القدر التي ذقتها على يديها .
تشتهي أفكاري و تطالبني بجنازة تليق بالألم ، فلتحمدوا الله لأن ّ لكم ذاكرة ، لكم مساحة للنسيان ، لكم ماض لايزال حيّا في طفولتكم . صرت أعترف أن ّخروجي الصباحي كان أبشع ما يرتكبه وحش في حقّ إنسانيّته ، في حقّ من نحبّهم حين يقرصنا جوع الخذلان ولا يتوقّف عن أكل أمعائنا ، كالوحي ينزلون علينا في رهبة دائمة وعلينا أن نطهر كلّما أذّن حبّهم في محراب غضبنا العابر .
طيلة الطّريق وحزني في القمّة يعتليني وأنا في العمق أعتلي بساط حزني . تاركة للفراش ما يدعوني للتفاؤل والمرح ، وحينما دخلت مقرّ عملي أحسست أنّي أدخل زنزانة محشوة بالأصوات المزعجة ، تثقب روحي ولا تعيد نظامها . جلست كما يرقد ميّت على قبره وكما تذبل زهرة في آنية مكتب ، وانهمكت قليلا في بعض الأعمال العالقة منذ البارحة .
اتّجهت نحوي إحدى المنظّفات اللواتي يعملن هناك وقد فهمت من قامتها المنصوبة كخيمة هدمها الريّح وتركها في عراء الحرّ تطارد بحيرة الفرح ، قاطعتني وبدأت تحدّثني عن ابنتها دون مقدّمات ، وأنا لا رغبة لي في تبادل غصص الكلام مع أيّ أحد ولا قدرة كانت لوجهي على دقّ طبل الفضول أو تبادل أيّ ضحكة على سبيل الصدفة . عدا أنّي من غير أن أحسّ أطلقت وحوش حواسي نحو من كانت تختبئ خلف ثوبها .
أدركت من ظلالها المتجلّية أنّها طفلة صغيرة ساقها قدرها الخجول إلى خيبتي ومن واجب الكبار دائما أن يبتسموا ولو بكاء أمام الأطفال خصوصا لو كانوا مميّزين مثل هذه الطفلة . وشيئا فشيئا تركت القلم ووضعت العمل جانبا وبدأ ت أصغي باهتمام لهذه الطفلة ولأمّها فمن الغريب أن تصاب طفلة بعمر الفرح بمرض " النّسيان المزمن " بالرّغم من أنّ ذاكرتها الصّغيرة لا تزال غضّة ، لا بل تضيف والدتها بحسرة أنّ وظائف الذاكرة في عقلها متوقّفة . وددت ساعتها لو أنجو إن بكيت . لو أستطيع الهروب كطفلة من غير ذاكرة . أليس عجيبا أن تقف أمامي طفلة محرومة من الذاكرة والذكريات ؟ فبعضنا إن لم أقل كلّنا ينبذ الذاكرة أحيانا ، لأنها لا تنسى شيئا يخصّنا ولا تطاوعنا في نسيان ما نرغب أو رمي ما لا نطيق عن أكتاف احتمالنا . أما هذه الطفلة فقد وجدتها الوحيدة التي تبحث عن ذاكرتها في حرم الكبار ، التي تكره النّسيان بالفطرة وتتعوّذ منه كلّما نقر حقل زهورها .
أجلستها قربي في حين غادرتنا أمّها كما تغادر الشوكة حلق الحبّ .
بدأت أحدّثها عن أحلامها ، عن حبّها للمدرسة ، وعن معلّمتها التي تحبها بدلا من معلّمها الجديد فقلت لها : هل تعرف معلّمتك أنك تحبينها كلّ هذا الحب ؟ قالت لي لا . فأجبتها : عليك أن تخبريها بذلك في المرة القادمة وتبادرت في ذهني فكرة وكأن المرح والنشاط قد دبّا من جديد في عروقي ، وتجاوز حدود إمرتي ، فتشاطرنا الضحك سويا ومسكنا القلم معا وكأنّ دموعنا توحّدت . لنتحدّى النسيان القابع في عقلها الصغير ، ونهزمه بإراقته والرّسم على تفاصيل جسده كما لم يفعل فنّان قبلنا .
بدت الطفلة غارقة في الفرحة والسعادة كما أغرقني حضورها بذلك حين عجزت كلّ الدنيا وجميع العصافير المحلّقة ، وحتى الفضولية منها التي لا تغادر النوافذ لنقل بعض القصص والحكايات كفتات الخبز وحبّات القمح ، وحين رجعت والدتها أدركت أن شيئا ما تغيّر في ملامح ابنتها المنفية وهروبها الذي يواصل غروبه . كأنّ شيئا خارقا حدث على غير العادة وكأنّي صرتني فيها ، في ذاكرتها المليئة بالضّجر ، في ابتساماتها المقبلة والمدبرة في آن .
سألت والدتها حين أوشكتا على مغادرتي . هل تعيدينني إلى هنا ؟ وغادر صوتهما مكان عملي وأدركت كم أنّ العصافير عظيمة في حروفها ، أرواحها الصغيرة تدقّ باب قلوبنا كثيرا لتغمره بالفرح . واستأنفت عملي كمن يحاول لأوّل مرّة ولا يعرف من أين ينتهي بين أوراقه وكومة أشواقه التي تنسدل كالشّعر النّاعم على الرّأس .
كانت زيارتها البريئة خياليّة جدا ملأتني بلقاء وأفرغتها ببقايا ما أملك وما أشهى أطباق القدر التي ذقتها على يديها .
تشتهي أفكاري و تطالبني بجنازة تليق بالألم ، فلتحمدوا الله لأن ّ لكم ذاكرة ، لكم مساحة للنسيان ، لكم ماض لايزال حيّا في طفولتكم . صرت أعترف أن ّخروجي الصباحي كان أبشع ما يرتكبه وحش في حقّ إنسانيّته ، في حقّ من نحبّهم حين يقرصنا جوع الخذلان ولا يتوقّف عن أكل أمعائنا ، كالوحي ينزلون علينا في رهبة دائمة وعلينا أن نطهر كلّما أذّن حبّهم في محراب غضبنا العابر .