أحيانا يسوق لك القدر نماذج بشريّة تلقّنك الحياة حين تكون فاقدا للقدرة والرغبة على فعل أيّ شيئ ....
استيقضت ذات صباح مريضة جدا ، لا رغبة عندي للحركة .... كابرت
وارتديت ثوب المحاولة في أن أكون كأيّ شخص عادي يستيقض من النّوم متجها إلى عمله
... لكنّي تركت في فراشي كلّ ما يدعوني للتفاؤل والمرح ..... وحينما دخلت
مقرّ عملي وانهمكت قليلا في بعض الاعمال العالقة ، اتّجهت نحوي احدى المنظّفات
اللواتي يعملن هناك .... قاطعتني وبدات تحدّثني عن ابنتها وانا لا رغبة لي في
تبادل أي حوار مع أيّ أحد ولا حتى ان أضحك في وجه من حملتها إليّ معها .... فمن
واجب الكباردائما أن يبتسموا ولو تمثيلا أمام الأطفال خاصة لو كانوا مميّزين
مثل هذه الطفلة ... وشيئا فشيئا تركت القلم ووضعت العمل جانبا وبدات أصغي باهتمام
لهذه الطفلة ولأمّها ... حيث قالت لي أنها مصابة بمرض النّسيان المزمن وذاكرتها
لم تبدأ بعد في نشاطاتها .... لا بل لم يكتمل جسدها .... فللذاكرة جسد يكتمل
باكتمال ونضج العقل والجسد الخارجي .... أما هذه الطفلة فلا ذاكرة لها أليس عجيبا
ان تقف امامي طفلة صغيرة محرومة من الذاكرة والذكريات ؟.... فبعضنا بل كلّنا ينبذ
الذاكرة أحيانا .... لأنها لا تنسى شيئا ولا تطاوعنا في نسيان ما نرغب ... أما هذه
الطفلة فهي تبحث عن ذاكرتها التي لم تعرفها بعد ، لم تجرّبها بعد .... أجلستها
قربي مستسمحة إياي في ذلك ... وتركتها عندي لبعض الوقت .... فبدات أحدّثها عن
احلامها عن حبّها للمدرسة وعن معلّمتها التي تحبها بدلا من معلّمها الجديد فقلت
لها هل تعرف معلّمتك انك تحبينها كلّ هذا الحب قالت لي لا فأجبتها عليك ان تخبريها
بذلك في المرة القادمة وتبادرت في ذهني فكرة وكأن المرح والنشاط الذي تركته في
البيت قد استقلّ عصفورا خاصا ليلحق بي فتبادلنا الضحك سويا وشاطرتها القلم لتكتب
وترسم لمعلّمتها حبّها لها ..... لاني رأيت انه من غير المعقول ان تبقى مشاعرها
حبيسة قلبها الصغير فأردت أن أجسّدها في رسالة وكأنّنا نتحدّى النسيان القابع في
عقلها الصغير .... ونهزمه بالكتابة والرّسم والتعبير .... وفعلا شددت على يدها
ورسمنا سويا على الورق كثيرا .... وبدت الطفلة غارقة في الفرحة والسعادة كما
أغرقني حضورها بذلك حين عجزت كلّ الدنيا عن ذلك .... لأنّها ناولتني فنجانا في
الحياة قلّما أشربه في حالة اليأس التي مررت بها .... وحين رجعت والدتها قالت لها
استمتعت كثيرا ..... هل تعيدينني إلى هنا ؟ وغادر صوتهما مكان عملي ونظرت صوب
النافذة وقلت ....هناك بعض البشر كالعصافير أرواحهم الصغيرة تدقّ باب قلبك كثيرا
لتغمره بالفرح واستانفت عملي من جديد وغادرني الحزن واليأس حين اتّصلت بنور
الحياة ....... وسمعت صوته الذي يغمرني فرحا لا يزول ... كم أحبّك يا نور النور .
خديجة ادريس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق