الجمعة، 28 أغسطس 2015

الأمّ وراء النّافذة

صورة ‏نسيان النسيان‏.

  أحيانا يسوق لك القدر نماذج بشريّة في عمر الورد ... تلقّنك رحيق الحياة وبعضا من عطر المواساة حين تكون فاقدا للقدرة والرغبة على الحياة.
ذات صباح استيقظت من فراش عقلي مترهّلة الأفكار ، محدودبة في رغبتي ، وقد تركت على سريري جزء من حلم مزجع قرّرت أن آخذه معي في ملامحي . لا رغبة اليوم للحركة خارج دائرة الصّمت هكذا قرّرت أن أعيش هذا اليوم الحار في فصل بارد ينهش عظم ارتعاشي . كابرت وارتديت ما لامس يديّ في مشجب عتيق من ثياب ما راعيت فيها نسق الألوان ، وناولتني حقيبة الخيبة وغادرني العمل قبل أن أغادر إليه .
طيلة الطّريق وحزني في القمّة يعتليني وأنا في العمق أعتلي بساط حزني . تاركة للفراش ما يدعوني للتفاؤل والمرح ، وحينما دخلت مقرّ عملي أحسست أنّي أدخل زنزانة محشوة بالأصوات المزعجة ، تثقب روحي ولا تعيد نظامها . جلست كما يرقد ميّت على قبره وكما تذبل زهرة في آنية مكتب ، وانهمكت قليلا في بعض الأعمال العالقة منذ البارحة .
اتّجهت نحوي إحدى المنظّفات اللواتي يعملن هناك وقد فهمت من قامتها المنصوبة كخيمة هدمها الريّح وتركها في عراء الحرّ تطارد بحيرة الفرح ، قاطعتني وبدأت تحدّثني عن ابنتها دون مقدّمات ، وأنا لا رغبة لي في تبادل غصص الكلام مع أيّ أحد ولا قدرة كانت لوجهي على دقّ طبل الفضول أو تبادل أيّ ضحكة على سبيل الصدفة . عدا أنّي من غير أن أحسّ أطلقت وحوش حواسي نحو من كانت تختبئ خلف ثوبها .
أدركت من ظلالها المتجلّية أنّها طفلة صغيرة ساقها قدرها الخجول إلى خيبتي ومن واجب الكبار دائما أن يبتسموا ولو بكاء أمام الأطفال خصوصا لو كانوا مميّزين مثل هذه الطفلة . وشيئا فشيئا تركت القلم ووضعت العمل جانبا وبدأ ت أصغي باهتمام لهذه الطفلة ولأمّها فمن الغريب أن تصاب طفلة بعمر الفرح بمرض " النّسيان المزمن " بالرّغم من أنّ ذاكرتها الصّغيرة لا تزال غضّة ، لا بل تضيف والدتها بحسرة أنّ وظائف الذاكرة في عقلها متوقّفة . وددت ساعتها لو أنجو إن بكيت . لو أستطيع الهروب كطفلة من غير ذاكرة . أليس عجيبا أن تقف أمامي طفلة محرومة من الذاكرة والذكريات ؟ فبعضنا إن لم أقل كلّنا ينبذ الذاكرة أحيانا ، لأنها لا تنسى شيئا يخصّنا ولا تطاوعنا في نسيان ما نرغب أو رمي ما لا نطيق عن أكتاف احتمالنا . أما هذه الطفلة فقد وجدتها الوحيدة التي تبحث عن ذاكرتها في حرم الكبار ، التي تكره النّسيان بالفطرة وتتعوّذ منه كلّما نقر حقل زهورها .
أجلستها قربي في حين غادرتنا أمّها كما تغادر الشوكة حلق الحبّ .
بدأت أحدّثها عن أحلامها ، عن حبّها للمدرسة ، وعن معلّمتها التي تحبها بدلا من معلّمها الجديد فقلت لها : هل تعرف معلّمتك أنك تحبينها كلّ هذا الحب ؟ قالت لي لا . فأجبتها : عليك أن تخبريها بذلك في المرة القادمة وتبادرت في ذهني فكرة وكأن المرح والنشاط قد دبّا من جديد في عروقي ، وتجاوز حدود إمرتي ، فتشاطرنا الضحك سويا ومسكنا القلم معا وكأنّ دموعنا توحّدت . لنتحدّى النسيان القابع في عقلها الصغير ، ونهزمه بإراقته والرّسم على تفاصيل جسده كما لم يفعل فنّان قبلنا .
بدت الطفلة غارقة في الفرحة والسعادة كما أغرقني حضورها بذلك حين عجزت كلّ الدنيا وجميع العصافير المحلّقة ، وحتى الفضولية منها التي لا تغادر النوافذ لنقل بعض القصص والحكايات كفتات الخبز وحبّات القمح ، وحين رجعت والدتها أدركت أن شيئا ما تغيّر في ملامح ابنتها المنفية وهروبها الذي يواصل غروبه . كأنّ شيئا خارقا حدث على غير العادة وكأنّي صرتني فيها ، في ذاكرتها المليئة بالضّجر ، في ابتساماتها المقبلة والمدبرة في آن .
سألت والدتها حين أوشكتا على مغادرتي . هل تعيدينني إلى هنا ؟ وغادر صوتهما مكان عملي وأدركت كم أنّ العصافير عظيمة في حروفها ، أرواحها الصغيرة تدقّ باب قلوبنا كثيرا لتغمره بالفرح . واستأنفت عملي كمن يحاول لأوّل مرّة ولا يعرف من أين ينتهي بين أوراقه وكومة أشواقه التي تنسدل كالشّعر النّاعم على الرّأس .
كانت زيارتها البريئة خياليّة جدا ملأتني بلقاء وأفرغتها ببقايا ما أملك وما أشهى أطباق القدر التي ذقتها على يديها .
تشتهي أفكاري و تطالبني بجنازة تليق بالألم ، فلتحمدوا الله لأن ّ لكم ذاكرة ، لكم مساحة للنسيان ، لكم ماض لايزال حيّا في طفولتكم . صرت أعترف أن ّخروجي الصباحي كان أبشع ما يرتكبه وحش في حقّ إنسانيّته ، في حقّ من نحبّهم حين يقرصنا جوع الخذلان ولا يتوقّف عن أكل أمعائنا ، كالوحي ينزلون علينا في رهبة دائمة وعلينا أن نطهر كلّما أذّن حبّهم في محراب غضبنا العابر .

زكام الشّتاء


صورة ‏نسيان النسيان‏.


يفقد الفصل ثوبه ، ويفقد الورق لونه ، ويفقد القلم حبره ، ويفقد الصوت صوته .... هي هكذا أعراض المرض عندي . فزكام الصمت أحيانا يشعرنا برغبة في البكا ء ، وإن فقدنا السيطرة على ذواتنا في لحظة ضعف ستجد كلّ جزء فيك يقول لك ما هذه الدموع ؟ .... وستردّ بلهفة وكأنّك تتجاهل نفسك وتخاطب مجهولا يسكنك : مسكّنات لزكام الهجر والفقد أقصد الشّتاء . وتبتسم مع بعضك الذي كذّب بعضك ، و تراوغ شعورا واضحا في داخلك لا يمكن أن يصبح غامضا ، أسودا ، فالثلج أحيانا لا يذوب مقابلا للشّمس ، والدّمعة أيضا يصعب شدّها إلى الداخل لتتراكم في العين وتصبح بحيرة راكدة يغتسل فيها إوزّ الغد المجهول . وكأنّ الشّتاء أصبح يحمل أكثر من معنى وجرح ، بكامل تفاصيله حاضر في وجهي وقلبي ومع ذلك لا أستطيع حجبه ، ووحدها نظرة الحزن تبقى مشتعلة في عيني لتدفّئ بقايا أنفاس تنتظر الفرج من وجع يرفض أن ينام . تحت وسادتي أعلّق أملي ، أنجب عقلا هادئا على سريري ، وعلى وسادتي أعانق جنوني ليمضي هذا اللّيل المسنّ .
ما أقسى هذه القهوة اليوم باردة جدا ، ساخنة جدا ، أحرّك سكّرها مرغمة وكأني أحرّك عقلي . وحدها تقتلني تلك الأفكار المجنونة و الأرقام التي تنزل على رأسي لتسكب لهفتي في فمي ، وينقضي ما تبقّى منّي إلى حيث يخفق قلبي من شدّة الجوع و يدقّ الخوف على زجاج روحي . أشياء كثيرة لا تزال متدفّقة في كبد حزني وتقطّعني أجزاء ، كلّ جزء ينفر من جزء وأنا القائدة الوحيدة في عمق شتاتها ، في رسائل حربها المليئة بالقبل والدمّ . فيا ويح الطّين العالق في نسياني ، ويحي من سمّ الوقت واغتيال الرّعد للغة ، للسعادة التي أنجبت شقاءها لحظة فزع ، فقدت الحركة من الدّاخل وأنا لا أزال أغرق بي .
أحيانا ألجأ إلى فكّ ظفائري انتقاما من طول سوادي ، وأعضّ على مشاعري التي تتأوّه في حلمي . لن أقبل بأيّ أنثى تقترب ، وأترك عصفور جسدها يلحق بك دون حصار ، أرفض أن أحتجز غيرتي بشدّة ، ولن أصفع تهوّرها الجميل بداخلي .
فراشات الدّهشة تسكن أكوام القلق ، ليبتلعني الغضب بهدوء ولا صوت يسمع عبر نافذتي غير الصّمت ، غير عاصفة فاتها الرّبيع ومضى ، لا شيء يسمع غير صوت الخشب المنبعث من غابة أشواقي ، مبلّلة أحاول أن أحرق نفسي حتّى لا ينتبه أحد لحديث الشتاء بداخلي .
أيّتها المجنونة التي تغلبني ، وتضربني بداعي القتل أوقفي حركة الدمّ الملتهب وأخبريني أينك ، أين أوانك الذي أرغب في الوصول إليه ، أوقفي جميع خيطان الصّوف التي تلفّ أصابعي وعنقي .، أوقفي أيّتها الأعين الدّخيلة صهيل فضولك عنّي فمحال أن يهتزّ الرّبيع في الوقت ، في حطام جعجعتك انصرفي ، فالعاصفة بداخلي تموت واقفة ، وتقتل بشغف ، وتسامح بندبة .
لست أبدا سوى أنت ولن أكون خلفك بل أمامك ، أنا هناك حيث أنت ، حيث لا يشرق لي صباح ، ولا أنفاس ستشنق إلاّ بمستحيل حاجتك ، سأقلّب فناجيني اليومية من دون صوتك وأبكي أزقّة مشيناها معا ،وتركناها تكبر دون مقاومة . لا أكاد أراني في حضورك ، مصابة حواسي بالعمى ، ببقايا الزّهور الجاهزة في موعد ، فضع خاتم حبّك في قلبي ولا تخف التفافك بالقدر و نخب المحبّة لأموت بسلام فيك فرائحة الغياب مقرفة ، موجعة ، اقترب إني أحتاجك لأتنفّس ، أحتاجك يا مجنون حذفي الذي ألقاه بفرح فقد أ دركت لحظة وضعت عقلي في خلاصي أني أعشقك ، يدوّخني دوران مقاومتك يجعني أتوحّد بمجرّتك وأنا في عداد اللّهفة وعلى قيد موتك تفرغني الكلمات منّي وتخون ذمّة الصّمت تحت وطأة هاتف مشمّع بالكبرياء والكرامة ، وأنا لا أزال فوق رصاصة عشقك أرقص ، تكاد تقتل نفسها بي لتحصل عليّ حدّ الهلاك .
فلا رسالة أتت ولا رنّة أسمعتني صوتك وأنا في عمق اللّيل أعرفني بوضوح ، أسكّن ألم قلبي بالظلام .. لأبقى قيد الحرمان أفجّر نفسي كتابة وأنا لا أزال مريضة .
زكام هذا الشّتاء أعراضه مختلفة تدقّ في رأسي طبولا صاخبة تزيدني انتقاصا ، وتضخّمني حزنا ، أحتاج ابرة قسوتك ، ومرارة هجرك ، وملعقة الرّجاء ، وسرير كتفيك ، أحتاج أن أسعل حبّك على شكل كلمات أحـ ، أحــ ، أحــبّك جدا .

أنثى ... استثنائيّة

صورة ‏نسيان النسيان‏.


متى يهدينا الحزن لذّة الفراق ويجمعنا أشتاتا ويحملنا على ظهره إلى الطرف الآخر حيث السّعادة مجروحة . مقتنعة جدا أنّي بوجودك كنت أنثى استثنائية أوقعها القدر في فمك ، وأبكتها عين الغيرة التي تكتبك . كنت معك حبيبة بلا قيد أهديتك بكائي ، وشيئا منّي لا يشبه النّساء ، أهديتك حزني عقدة عقدة حتّى أصبح جرحا غرق في داخلك حدّ الموت جلست لأكتب لك .، فضعت فيك وبين تفاصيلك ، وما عرفت طريق العودة الى أصابعي .... فالكتابة عن الحبّ ضياع ، مشاعر تبحث عن هويّة وكل أوقاتي في حضور طيفك بدايات تخلعني منّي وتصبّ في شريانك ، في صلابة حبّك العنيف الذي يوصلني إليك من غير تعب. فأنا اخترت أن أكتبك أكثر ، لأخنقك أكثر ، لأحاصرك أكثر . فعار على كلّ أنثى أن تترك حلـــــبة حروفها لأنثى تبيع صدقها ، وتوزّع خياناتها على الجميع وكانّ القناع صار وجهها ، فكيف النّسيان لـرجُل ينبت داخلي كـالعُشب. كبندقيّة تصوّب باحتراف ، وتقتل من دون ألم ، فقد ذبحني الصوت الذى لا يغيب عن أذني وبعد كلّ هذا الخراب تبتسمين في ظهر الطّهر الذي توّجك أميرة على خيباتي . وكثيرا ما استجديت حنجرتي أن تصمت ، أن تغتال هذا الضّعيف الذي يسكنني ، أن تتجاهل هذا المساء الممتدّ في قلبي باسطا ذراعه السّوداء ليحجب عنّي رؤية الصّباح ، ولكنّي يا صغيرة القدر لازلت سبب سعادته ، لا زلت أسرقه منه ، لا زلت أقنعك بنا ، ومع كلّ أسف لاتزالين تلوين ذراع قلبي .. فقسماً بالسّابقاتِ إنْ وُجدن وأنت أوّلهنّ ، واللّاحِقاتِ إن كُنّ ، والعابرات إن فكّرن فيه ، والتّائهات وحتّى العابدات منهُنّ، لأجمعنّ حطب غضبي ، ولأُلقيهنّ في نـــــــــار قلقي حتّى يذوب عظم رغبتهنّ فيه ، فالحاضرات يعلمن الغائبات ليستقيم بذلك عدل أنوثتي.

أوّل انفجار

صورة ‏نسيان النسيان‏.



صعب أن تبدأ طريقك دون انفجار تحدثه على صفحات روحك اليومية .. وتفني عمرك وما تبقّى من دقائق اهتماماتك لتصل إليه . وتبقى أجمل الأشياء التي تحدث ، ما يمضي فينا ولا يمضي عنّا، ما يستقرّ في قاع وعينا ولا يطفو بنا ، ما يدثّر برد لهفتنا وصقيعنا . ما يتجمّد في ذواتنا وما يذيبنا . صعب أن يأكلنا حزن ما في ركن مجهول لا يعلم بوجوده أحد . بعيدا عن ضجيج الحياة والبقاء ، وعلى ضفاف أعماقنا ننجب الحبّ ونربّيه ، نطعمه أعضاءنا وكلّ ما نملك . صعب أن تبدأ خطوتك الأولى بانفجار كهذا وأنت ترقب ما خلّفته وراءك بابتسامة مثخنة بالدّموع ، يا مدفئة الوحدة ابقي باردة ولا تلفحي جلدي المتعثّر بالشظايا والألوان فمذ قرّرت أن أنفجر به انفجرت قبل قراري وأسكنته نتوءات ضعفي . يا أنت يا من حضورك أثمن من الذّهب هبني ضمّتك وسكونك وحروف حرّك ، فأنا أريد أن أقتلني فيك ، أريدك انهياري وجميع زلاّت الأنثى الغائبة . كن أوّل انفجار على قيد ناصيتي ودعني أعوم في اليابسة وحدي ، دعني أتشقّق في جذار صمتك المتهالك ، بقربك أضجّ بالفصول ولي تمنّ أن أكون في طالعك نجمة زائدة ، وبكامل إرادتي قد اخترت العين التي تقتلني ، والشّوق الذي لم أعد قادرة على حشوه خارجا وداخل قوّتي . يا من تقيم في الجهة الأخرى من يساري حدّثني كيف يقتل الوجع فريسته في سكّينه ، ويغمسها في مآخذ صمته ثمّ يهدمها على كتفيه كمدينة لا تحتوي على كلمات . فقط نظرات دامعة وتفاصيل تمكث كثيرا بالذّاكرة ولا تنصرف كجرّة ثقيلة لا يهزّها الوداع .

القطار ... الموعود

صورة ‏نسيان النسيان‏.

 
حين تقول لقلقك أسكت تتوقّف جميع حواسك .. وتتحرّك لغة واحدة بداخلك هي الخوف على من تحبّهم حين يبتعدون .. ويكتسبون صفة الغياب المفتوح فلا تجد سوى قلقك عليهم خير صديق لانتظارك ، ومسكنا فعّالا لغيابهم الذي يوجع كيانك ويأكلك في صمت دون أن يحدث جلبة في أطرافك وغابة ذاكرتك المليئة بأشجارهم التي تنمو في داخلك . فاللعنة على ذاك القطار الورقي الذي شكّلته من غير سكّة لأصل إلى محطّة أنفاسك . حبّك مرض معد يصيب عصب أفكاري ويفقدني القدرة على استرجاعي ، لأننا في موسم الحصاد لا يمكننا أن نزرع آمالا جديدة وإلاّ كيف ستنمو حقول الشّوق في غيابك ،لكلّ السّنابل اليابسة التي حرّكتها ، لكلّ العواصف الصّغيرة لحظة مرور الفصل الأخير منّي من غير مطر أهدي خيبتي ، وساعة القتل . فأنا حين أشتاقك أدهس ما يعترضني وأرسم في كفّي شواطئك بأزقّتها وأعمدة كهربائها ، وحتّى زوارقها الفّارة من الغضب واليأس . كي أمدّك بتيار الحبّ وأنتشلك منك فيغرق المكان بالماء ، ويتكسّر جسدي بالهواء ، ويذوب ذاك القطار المشاغب بين السّحب فتمطرني الحياة بك و ترتعشُ الأكواب و النوافذ وأصير نورسا ، زجاجة من ضباب فأغسل نفسي بالغبار والعرق فقد أتعبني المشي على قلبي .... فالنّادرون في حياتنا كالمطر، كريح باردة تلفحنا بعنف .. يصنعون أقدارنا بحجم الأبد . فصغيرة جدا هي عواطفي عليك ، صغيرة جدا على رجل مثلك أصبح العمر في حضرته لحظة واحدة أطفو فوقها كما الزّبد ، كما تذوب القهوة في قاع الفنجان ، كما يخترق القطار المتعجّل أذني فأصير بلا حواس وأنا بدونك لا أحد.

واجهات ... الخيبة

صورة ‏نسيان النسيان‏.

واجهات الخيبة تستوقفنا كثيرا ، ونادرا ما تتركنا نمرّ دون تذاكر مدفوعة الثّمن لأشياء لا نرغب فيها ...ومع هذا تسقط في أقدارنا ونقتنيها عن مضض ودون اقتناع . فالحياة لا تحتاج إلى قناعات وإنّما إلى قرارات ذكيّة نتّخذها في الوقت المناسب قبل أن نضيع في لحظة القرار . فوراء كلّ خيبة .... هيبة نصنعها بعد سقوط طويل لعواطفنا أو محاولة فاشلة في انعاش الوقت الذي يموت بداخلنا على طاولة احصاء منسوب الأحلام والأمنيات المشرّدة في شوارع عقولنا المظلمة ، وأطفال الخيبة الذين نربّيهم بالفطرة . وبين الإستمرار أو الفرار ، بين العودة أوالهروب نجد نا صدفة في ضياعنا ، و حقيقة في وهمنا ، و أحلاما في يقيننا هكذا هي انفجاراتنا الداخليّة . حين تصبح شجرة لا يسمع صوتها ولكن يزهر ثمرها بنكهة العمر و خضرة الوقت ، كحمامة في الحلم تنقر أقدارنا . وتأكل حبّ الحزن المتراكم فينا لنكتشف كم نحن بحاجة إلينا ، إلى ذاك الطّفل الصغير الذي لا همّ له سوى اللّعب ، بحاجة نحن أن نعود صغارا بوجه لم يعد ذاك الذي ألفناه وملّنا . مهمّتك التي لم تبدأ بعد أو التي انتهت ربما ولم تعد تعرف البداية من النهاية ، أو لعلّك اخترت أبسط الحلول وقرّرت أن تتوسّط الأشياء وتقيم في اللاقرار . فلا أنت متقدّم لتسقط في فنجان قناعاتك ولا أنت متأخّر عنه لتنزل عن جميع رغابتك التي لا تسدّ جوع فراشات قلبك ، ونخيل ذكرياتك ، وبحيرة أسرارك . لأنّك ببساطة لا تريد أن تبكي مرّة أخرى على طريقة الأطفال لتحصل على ما تريده ممن تحبّ .. اجعل الحبّ قدرك والحبر ماءك ، و الأمل طعامك الوحيد ستجد بأنّ هشاشة صبرك ستقوى أكثر فمتى ستدرك أنّ الأشياء الصّغيرة هي انفجاراتك الكبيرة التي تحدثها في عقول الآخرين وتمضي بسلام فيهم . فدع عدوى الفرح تنتقل حتّى تصبح القلوب نوافذ مشرّعة ،وغابة مليئة بالأمنيات يقصدها الجميع حين يحدث العطب .
مبلّل هو طريقنا بالمطر ، مبلّل بالهواء ، تزيّننا نافورة ماء صغيرة بنيناها عن تعب من بعض صراخنا وموتنا ، من تعثّرنا ودموعنا . هي باختصار شديد تاريخنا الذي صنعناه وحطّمنا لأجله آلهة الخوف وأصنام الفشل ، ومضينا في البحث عن إلاهنا الحقيقي ، وعن قطار عمرنا السّريع الذي نطارد من نوافذه طيور الحبّ حين نعود اطفالا فقط سنمارس جنوننا عن رضى ، ماذا بوسعنا أن نفعل سوى الدّهشة سوى الإستمرار في اللاستمرار.

لأنّك أكبر من أي لغة

صورة ‏نسيان النسيان‏.


لم أعد أؤمن بسحر الكلمة كثيرا ، فضجيج مرورها في جنبات الصّمت يكسر معاني الشّوق . ولا يزيد روحي سوى النّزف وفي هذا الظّلام الكثيف الذي أحسّه في مسامات ذاكرتي التي تجعلني غير قادرة على الكتابة من دون ملح ، ذاك الرّبيع المتأخّر في قدومه دائما ، ذاك القاتل المحترف في تشريح الصّمت ، ذاك الذي يهزمني أكثر بحديثه بحمرة جليده ، ومساحيق ثلجه التي تزاحم الأمكنة الفارغة من البوح . أنتعل الوقت الذي يداهمني في كلّ مرّة ليدهس عجلة اللّهفة التي تسير بي إليّ ، ويطفئ كبريت صوتك في فمي و يشعل قدر الكلمات في مداد أنفاسك لأتبخّر في سواد غيابك . أعجز حقّا عن الكتابة وكلّما حاولت امتطاء ظهرها أسقطتني عنوة وهشّمت رهبة الموت في تجاعيد نجمك البعيد ، وقلّما أجد لنفسي زقاقا حبريا يؤذّي بي إليك ، إلى ذكرياتك العالقة . أواصل المشي فيك بشغف وكأنّي أمشي على صوتي وعطشي وبقايا من خلّفت . أمشي كخريف موعود بالمطر ريثما أجد في نفسي بابا لا صوت له يشعرني بالحاجة إلى أن أكون وحيدة كغيمة . أبحر في فضاءاتها الفارغة و يحرّكني من فوق طائرها الورقي وأنت . أختنق في عنق الغياب فأكاد أغرق ولا أغرق ، وكأنّ ما يجمعني بك تشتّته. تنبش وجهه الجاف وتفجّر قنابل الوعي التي تسكنني فلربما حينها فقط أتبعثر ، أتّخذ لنفسي عذر الجنون بانفجاري الذي يتابع حياته بداخلك ... فواصل بمراياك المكسورة إخافتي وأجبرني أكثر في التّحديق بشظاياها لأكتشف عاهتي بك وأحصي جميع الثّقوب التي أحدثها نيزك بعضك في مداري ، وأوقن بصدق أنّي أحمل أكثر من إصبع في روحي لأكتبك ولا أستطيع ذلك ، لأنقذك منّ قصائدي الميّتة وأحرّرك من قدري المنكوب . ساق في روحي وأخرى في ضياعك ومع ذلك أستمرّ في الرّؤية ، في قصّ العطر من ثيابك أستمرّ في عجن أرغفة الإنتظار من دونك ، وطهيّ كلّ التوقّعات التي لا تجلب لي سوى الخيبة وهدر للوقت ومزيد من النّحس .دعني يا أنت ، يا بعض ما يلقيه الضّوء في ظلامي ، يا مدينتي في الحقول ، ويا عصافير حذفي ، يا منفاي الأنيق دعني أحتفي وحدي باسترجاع كرامة الحبّ وصمت البوح ، واحتراق الأمكنة بحطب الكلمات الطاعنة في السنّ ، بشيخوخة مبكّرة لأبجديّة أكل الإنتظار منسأتها ، ومع ذلك لا تزال مصرّة على الحياة بمساحيق الأمل . أيقنت سيّدي أنّك أكبر من عمري ومن لغتي ، وأطول من قلمي لذلك تأنّى تأنّى بقربك منّي كي لا أذوب دفعة واحدة في شمسك .
         

حبيبة الموت

صورة ‏نسيان النسيان‏.
    يتابع في رأسها الجنون حديثه ، وتنسدل على خصلات شعرها الأيّام الهرمة وفي ملامحها المحفورة من الدّاخل تتراكم الذكريات والاشياء المنسيّة في آن ، وكأنّها تربت على كتف القدر وتستجدي ذاكرتها مزيدا من الضياع ، مزيدا من ثقل الأشياء على صدر معطّر بالفقد . تسابقها الخطوات المثقلة لحاجة إلى سند تودعه أمنياتها المثقوبة ..
هي ما عرفت يوما كيف تشتاق إلى ذاتها ، لا تحاول أن تواجه صورتها في حيطان الشوارع التي وجدت فيها كبد الرّحمة وعينا تدمع معها ، تساعدها على كره الأشياء التي تسكنها وترفض ان تخرج منها وتنبش وجهها علّها تنتقم لنفسها من نفسها.
لم يعد ثمّة أمان ، ولا حتّى قليل من الرأفة . لم تعد هناك ساق لتاخذها إلى الجليد ، ولا حمامة ترفرف مزهوة بأنوثتها ، ولا حاجة صارت تراود قلبها غير الحاجة ... ماكثة في نفسها لتطرد حشرات فضولية ، وأخرى تشرّح جثّتها المرمية في غرفة اللاوعي والغياب لتؤلّف حكايتها عن جهل وترتّب احداثا تورّطها اكثر بالخطيئة والذّنب.
ألسنا الخطيئة الحقيقية حين نمرّ بموتها في شارع يعجّ بالأحياء ولا أحد يقف ، و لا أحد يحاول أن يتوجّع بها أو يتعلّم حتّى كيف تحسّ الأشياء أو يستفسر عن الوحش الذي اغتال نسيانها ....
حدّ القلق وحدّ البكاء وحدّ الذّنب صرت أعاقب نفسي لأني أمام ضعفها جبنت لم أحاول احتضان غيبوبتها في منتصف المدينة الباردة التي تقتل أبناءها في صمت ، وتطحن عظام الغرباء الذين استنجدوا بأرصفتها العارية وحيطانها المليئة بالقتل
أبدا لن أسامح الوحش الذي يسكنني ولا المجرم الذي أعنته في قتلها قبل أن أعرفها.
ممدّدة شبه مستيقظة كدمية لا تصلح لشيء ، تؤنسها بعض الآنيات المحطّمة الفارغة وتحيط بخصرها القمامة ، ولا تسمع صوبها غير صوت الذباب الذي يحوم حول وجهها وكانّه يطمئنّ على قلبها ويجسّ نبض أنفاسها البطيئة وهي مستلقية وكأنها لا تريد أن تذوب دفعة واحدة لتقتات على بعض ما يلقيه الضّوء في فمها ، وما تحمله أصوات الاطفال من ضحكات توحي بأنّها لاتزال بين الأرض والنّار.
لا تزال تدخل من باب العمر كمعجزة تناطح الموت لتخبره أنّها سعيدة جدا برفقته أكثر من الحبّ والحياة .

عندما تتحوّل لغتهم فينا إلى حياة

صورة ‏نسيان النسيان‏.

 
ما أجمل أن تتحوّل أسماء بعضهم في لغتنا دفعة واحدة إلى حياة ، فما كان نكرة صار معرفة، ومن كان ضميرا مستترا صار متّصلا ، ومن كان ضميرا غائبا صار مخاطبا ، ومن كان حرف جرّ صار حرف عطف ، ومن كان خبرا صار مبتدأ ، ومن كان مجرّد حرف صار كلّ الكلمات .

جبانة حتّى في نومي


صورة ‏نسيان النسيان‏.


إني حين أكتب أوثّق هزيمتي ، أنظر إلى المرآة بشرف وكأني أنظر إلى معركة ، أحاول فيها كسب نفسي بالكلمات وأغار عليك منك ، من لفظ اسمك ما لم يكن بصوتي ، وأنا التي أحاول أن أداريك خلف دفاتري ، وأحكم طيّ الصفحات ، كأني حين أخفيك أفضح نفسي بمحبّتك ، بمعرفة النّاس من حولي كم أحبّك ، وأنا الجالسة بين الضّباب والسراب أدخّن رماد غيابك ، أتعمّد الموت بدخّانك ، ببقايا الفتات الذي تركته لي يوما على طاولة فراغك ومضيت .
أنا يا سيّد الحكمة قد منحت قلم المجانين ، ولديّ قبيلة من الموجوعين ، أغلق عليهم الدفتر كلّ ليلة وأنام ، وأغفو على وسادة محشوة بالورود وحين أستفيق أكتشف كم أنا جبانة حتّى في نومي.


خذني تحت عينيك لأكون أوّل ما ترى

صورة ‏نسيان النسيان‏.


أنا التي أعلنتني قلمك الذي يكتب ، مجذافا يحرّك بيقين ليل غيابك ، أنا التي لا تسألني الأشياء عنك وأظلّ أخفيك خلف عيوني ، أظلّني طيفا يظهر ويختفي ، يبكي ويضحك ، يصمت ويصرخ في لحظات انتظارك ، أنا التي يسابقني البكاء وأسابقه حين أستشعر حجم المسافة التي صارت تفصلنا ،  وهذا المطر الذي لم يعد يشدّتي من ذراعي لأتوقّف عن البكاء ، ليشعرني أنّي لازلت غيمة أفكارك ومدفئة قلبك وأنثى أحلامك .
خذني تحت عينيك لأكون أوّل ما ترى ، وآخر ما تسمع دعني أسكن فيك فالأمكنة من حولي صارت كالرّخام باردة ، دعني اتسلّل من شقوق روحك ومن فذائف الصّراخ وعواء الشّوق . كأنما رحلتي شوارع تبكي على صدر فتاتك الذي خلّفته في آخر لقاء.

بين انتظار وانتظار انتظار










صورة ‏نسيان النسيان‏.



أن تعلن صمتك كأن تعلن موتك بالكلمات ، كأن تمزّق لمعانا في ليل وحدتك ، وتزفّ شتاتك للرّيح ، للرّبيع الآفل قبل الأوان ، كأن تبتلع مدينة وتظلّ تبحث عنها في كومة ذكرى ، لتمزّقك وتبعثرك لتزهر من جديد كشجرة ، ولتحطّ بأمان عصافير قلبك على أغصاني فأهرب منك إلى كلماتي ، في يوم قرّرت فيه الهروب مني إليك وغيابك يتساقط من روحي ، يتلاعب بي كقدر شهيّ على طاولة الحياة . فبين انتظار وانتظار انتظار ، وبين هروب وهروب هروب وأنا بينهم أحترق وأكتب.

عندما تفيض الرّوح



صورة ‏نسيان النسيان‏.




في مدينة من مدن النّوم تفيض روحي وتنسكب كأنّما تتفتّح في شعاع الكلام ، وفي حنجرة الوقت أمدّ الوقت علّني أهتدي إلى حريق الحبّ ، إلى الصّمت ، إلى الألفاظ التي متى انتهت إليك انقلبت إلى حرف ، إلى زهرة دائبة في عواطفك ، تتأوّه كلّما حاولت هروبا فتشدّني عنوة كلماتك لتتركني محبوسة فيك وإذا بي أصغر أكثر وأكثر كلّما وقفت أمام شساعة حمولتك ، أمام المرآة حيث تجلس كلماتك تمشّط مشاعري ، وما تشابك في دفاتري من أشيائك.

سوء حظّ
















صورة ‏نسيان النسيان‏.



دوما كان لي سوء حظّ بالفرح وحيثما كنت أتواجد أنا كان يختفي هو ، ولكن مع مرور الوقت اكتشفت كم أنا ثريّة به ، وكم أنا في حاجة إلى نفسي ، إلى تحطيم صنم الخوف الذي اتّخذته إلاه ، بحاجة إلى  التوقّف عن الاصغاء الى بوق الوهم الذي كان يعزف بروحي أجمل الألحان . ثمّة فجوة مرّة تجبرك على الصّراخ ، تبقيك شبه مستيقظ وكأن جسمك صار مخدّرا عن الأحلام فلا أنت تستطيع النّهوض إلى نفسك ولا نفسك تستطيع الوصول إليك.

الحبّ في نهاية المطاف مقاومة.

صورة ‏نسيان النسيان‏.


 
يؤلمني الشّعور بالبكاء في يوم قرّرت فيه الخروج من نفسي إلى نفسي ، كخروج البحر من السّفينة ، كامتزاج الرّوح بالمدينة تلك التي ما اعتقدت يوما أنّ شوارعها ستكون ضيّقة ، وأنّها بعد كلّ هذا الشّوق الذي أكنّه لها ستبتلع ما تبقّى منّي من مواعيد وهميّة تحدث في مخيّلتي فقط ، تجعلني طفلة الشوق المدلّلة تلك الصّغيرة التي يغفو العالم على وسادتها وحين تستيقظ تجد على جدائلها أكوام الإنتظار ، ما اخترت يوما أن أبكيك حبرا ولكنّ الحبر اختارني لأكتبك بطريقتي وأنا حافية منك ، يؤلمني غيابك الذي يعرف كلّ الطّرق والإتجاهات ومع هذا يصرّ على قتلي دون نزف و يظلّ الحزن معطفي الكبير ، كظلّ الشّمس حول الشّجرة أدور في مجرّتك الحارقة ، تجرّدني حاجتي إليك من قدري كزورق مثقوب يصبّ في شريانك البعيد فأبذل جهدا أكبر في مقاومة نفسي فالحبّ في نهاية المطاف مقاومة.

كلمات ممزّقة

صورة ‏نسيان النسيان‏.


حينما نحزن تتغيّر أحلامنا ، ويصعب أن نصالح أنفسنا مع الأشياء ، مع الأشخاص الذين توّجتنا الحياة بمحبّتهم ، حينما يصبح للأمنيات وجه الموت وتصبح الكلمات مجرّد منشفة لأرواحنا المتعرّقة ، ذابلة في خطواتنا حين نسير وحدنا وكأنّنا صرنا بلا ظلّ ، بلا هويّة بلا ذكريات  وأنا التي اتّخذت من قلبي حبرا ومن رصاص الصّمت صوتا ، ومن غيابك دموعا أبلّل بها جفاف الأمكنة، حين نحزن نضطرّ إلى أخذ وقت مستقطع نراجع فيه منسوبنا الحبري من الوجع ، نراجع حساباتنا مع القدر بحذر شديد ، ونقلّب كومة الذكريات العالقة في رؤوسنا لنضمّد بعض جراحها المتورّمة وحينما نفشل في التّخلّص من الأفكار السيّئة نبكي لأنّنا ما عدنا نحن ولا عذر لنا بعد ذلك إن أصبحت كلماتنا ممزّقة ، ضعيفة ، لا تعيد أحدا من الغياب .

خنجر الأمنيات











صورة ‏نسيان النسيان‏.

  موجع خنجر الأمنيات حين يطعننا بعد طول انتظار ، موجعة هي الخيبة حين تصبح ضرورة ، وقاتل هو الأمل حين يخلعنا كمعطف مترهّل ، ذابلة هي قلوبنا حين تنزف في صمت ... وأنت ماذا فعلت بكلّ هذا الخراب الذي أحدثته ورحلت ، ماذا سأفعل بخطواتي التي تسير وحدها ، تشيخ وحدها ، وأنا الميّت بك وأنت تضحكين تمثّلين دور الرّاحلة بكرامة ، يا غبيّة ، يا حمقاء ، يا مجنونة لا شيء يرحل منّي من غير ثمن وأنت ستدفعين روحك لبقائي .

شظايا الدّهشة

صورة ‏نسيان النسيان‏.




كيف ألملم شظايا الدّهشة وكسور القلب ، كيف اجمع ملامحي من بعد خيبة وصدمة أورثتني سوء الحال ... ما اعتقدت أن الحياة بارعة في رسم الوجوه وفي غرس أعضاء الكذب والخيانة بهذا الشّكل المدهش ... لماذا أصبحت أقنعتنا هي وجوهنا الحقيقية وحقيقتنا هي أقنعتنا ... لطالما اعتقدت أنّ هناك عالما أبشع ممّ نراه ونسمع عنه ولكنّي لم اتخيّل ان يكون بهذا الطّعن المؤلم ..بهذا الوجه الضّاحك الباكي من تحت حرائق الوجدان .. مصدومة إلى الحدّ الذي نسيت فيه اسمي وعمر خيبتي ... فالصّدمة التي تأتيك دفعة واحدة أرحم من تلك التي تزحف إليك مختفية وكأنّها أنثى في جلد أفعى تمثّل دور الصّديقة وتتقن اللّسع بالضّحك ، لم أتخيّل أنّي سأطلّ من نافذة قريبة من النّفايات وأضطر لشمّ رائحة نتانتها رغما عنّي ، لم أعد أحتمل أكثر فالحياة لم تعد تعرفني ، لم تعد تدقّ وريد حدائقي الذّابلة ، الآفلة في المدى.

أشياء عالقة

صورة ‏نسيان النسيان‏.



هناك بعض الصور العالقة في الذاكرة لا يمكن أن تمحى أو تنسى أو تشنق ، لا زلت أذكر تفاصيل ذاك الصّوت المنبعث من المطبخ حيث لا ضجيج غير صوت الاواني وهي تقرع وترمى في كلّ اتجاه وآثار الطّعام مرمية على الأرض ، وبعض كلمات السّباب والشّتم و لعن الحياة وتمتمات خلف ظهر أمّ مسكينة اختبات خلف الجدران خوفا أن تصيبها لعنة شريرة أكبر ممّا تواجه كلّ مرة من عصيان وتمرّد وانعدام اخلاق وتربية ، انا لا أذكر الاماكن التي كنت اختبئ فيها خوفا ولكنّي اتذكّر ذلك الشّعور بالرّهبة والضّياع والبكاء من دون صوت ... تلك الرجفة التي كانت تصيبنا تلقائيا حين سماع صوته البعيد او لمحة من ظلّه الضّخم القادم من خلف الباب ، لقد كانت أوقاتا صعبة جدا بالنسبة لنا لأننا عشنا في بيت مثقوب ، تتسرّب من نوافذه رائحة غريبة تمتزج فيها كلّ المشاعر المؤلمة والحزينة . لقد تربّينا على الموت الرّحيم منذ صغرنا وأجسادنا الغضّة تحوّلت الى رقعة بالية من شدّة ما اختزلت من مواقف غير مفهومة وأسئلة لم نستطع الاجابة عنها ونحن كبارا ، ما يؤلم ألا تعرف ان تواسي أقرب الناس اليك وتمسح دمعه وصراخه المنخفض خوفا من آذان الحيطان ... وككلّ مرّة أشياء تمزّق وأخرى ترمى بعيدا وضرب غير مبرّح وروح تقطّع داخل الجسد ولا مجال لاعادتها كما كانت ولا أمل في تعديل تلك الصورة المقلوبة التي كبرنا معها في صمت ولا زلنا نراها معلّقة على الجدار تذكّرنا ببعض الذكريات المؤلمة التي تركت بصمتها الواضحة على ارواحنا وللأسف لا زلنا نحمل ذلك الوجه المشوّه عن الماضي الذي صار يعود بشكل جديد وبصورة مختلفة أكثر ألما.